فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} الآية، العامل في {إذ} العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها، ولو قدرناه قريبًا لكان قوله: {ويثبت} على تأويل عود الضمير على الربط، وأما على عوده على الماء فيقلق أن تعمل {ويثبت} في {إذ} ووحي الله إلى الملائكة إما بإلهام أو بإرسال بعض إلى بعض، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه {إني معكم} بكسر الألف على استئناف إيجاب القصة، وقرأ جمهور الناس {أني} بفتح الألف على أنها معمولة ل {يوحي}، ووجه الكسر أن الوحي في معنى القول، وقوله: {فثبتوا} يحتمل أن يكون بالقتال معهم على ما روي.
ويحتمل بالحضور في حيزهم والتأنيس لهم بذلك، ويحتمل أن يريد: فثبوتهم بأقوال مؤنسة مقوية للقلب، وروي في ذلك أن بعض الملائكة كان في صورة الآدميين فكان أحدهم يقول للذي يليه من المؤمنين: لقد بلغني أن الكفار قالوا لئن حمل المسلمون علينا لننكشفن، ويقول آخر: ما أرى الغلبة والظفر إلا لنا. ويقول آخر: أقدم يا فلان، ونحو هذا من الأقوال المثبتة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أيضًا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان بلمته من توهم الظفر واحتقار الكفار ويجري عليه من خواطر تشجيعه ويوقي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل يجيء قوله: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} مخاطبة للملائكة، ثم يجيء قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال كما تقول إذا وصفت حربًا لمن تخاطبه لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك، أي هذه كانت صفة الحال.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون {سألقي} إلى آخر الآية خبرًا يخاطب به المؤمنين عما يفعله في الكفار في المستقبل كما فعله في الماضي، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعًا لهم وحضًا على نصرة الدين، وقرأ الأعرج {الرعُب} بضم العين والناس على تسكينها، واختلف الناس في قوله: {فوق الأعناق}، فقال الأخفش {فوق} زيادة، وحكاه الطبري عن عطية أن المعنى فاضربوا الأعناق وقال غيره بمعنى على، وقال عكرمة مولى ابن عباس: هي على بابها وأراد الرءوس إذ هي فوق الأعناق، وقال المبرد: وفي هذا إباحة ضرب الكافر في الوجه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل أنبلها، ويحتمل عندي أن يريد بقوله: {فوق الأعناق} وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها، هي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة السلمي حين قال له خذ سيفي وارفع به عن العظم واخفض عن الدماغ فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال، ومثله قول الشاعر: [الوافر].
جعلت السيف بين الجيد منه ** وبين أسيل خديه عذارا

فيجيء على هذا {فوق الأعناق} متمكنًا، وقال ابن قتيبة {فوق} في هذه الآية بمعنى دون، وهذا خطأ بين، وإنما دخل عليه اللبس من قوله تعالى: {ما بعوضة فما فوقها} [البقرة: 26] أي فما دونها.
قال القاضي أبو محمد: وليست {فوق} هنا بمعنى دون وإنما المراد فما فوقها في القلة والصغر فأشبه المعنى دون وال {بنان} قالت فرقة: هي المفاصل حيث كان من الأعضاء، فالمعنى على هذا واضربوا منهم في كل موضع، وقالت فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو القول الصحيح، فعلى هذا التأويل وإن كان الضرب في كل موضع مباحًا فإنما قصد أبلغ المواضع لأن المقاتل إذا قطع بنانه استأسر ولم ينتفع بشيء من أعضائه في مكافحة وقتال. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}
قال الزجاج: {إذ} في موضع نصب، والمعنى: وليربط إذ يوحي.
ويجوز أن يكون المعنى: واذكروا إذ يوحي.
قال ابن عباس: وهذا الوحي: إلهام.
قوله تعالى: {إلى الملائكة} وهم الذين أمدَّ بهم المسلمين.
{أني معكم} بالعون والنصرة.
{فثبِّتوا الذين آمنوا} فيه أربعة أقوال:
أحدها: قاتلوا معهم، قاله الحسن.
والثاني: بشِّروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم، قاله مقاتل.
والثالث: ثبِّتوهم بأشياء تُلْقُونها في قلوبهم تَقوى بها.
ذكره الزجاج.
والرابع: صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد، ذكره الثعلبي.
فأما الرعب: فهو الخوف.
قال السائب بن يسار: كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السُّوائيَّ عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف؟ كان يأخذ الحصى فيرمي به الطَّست فيطِنُّ، فيقول: كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.
قوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق} في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم الملائكة، قال ابن الأنباري: لم تعلم الملائكة أين تقصد بالضرب من الناس، فعلَّمهم الله تعالى ذلك.
والثاني: أنهم المؤمنون، ذكره جماعة من المفسرين.
وفي معنى الكلام قولان:
أحدهما: فاضربوا الأعناق، و{فوق} صلة، وهذا قول عطية، والضحاك، والأخفش، وابن قتيبة.
وقال أبو عبيدة: {فوق} بمعنى على، تقول: ضربته فوق الرأس، وضربته على الرأس.
والثاني: اضربوا الرءوس لانها فوق الأعناق، وبه قال عكرمة.
وفي المراد بالبنان ثلاثة أقوال:
أحدها: إنه الأطراف، قاله ابن عباس، والضحاك.
وقال الفراء: علَّمَهم مواضع الضرب، فقال: اضربوا الرءوس والأيدي والأرجل.
وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: البنان أطراف الأصابع.
قال ابن الأنباري: واكتفى بهذا من جملة اليد والرِّجل.
والثاني: أنه كل مَفْصِل، قاله عطية، والسدي.
والثالث: أنه الأصابع وغيرها من جميع الأعضاء، والمعنى: أنه أباحهم قتلهم بكل نوع، هذا قول الزجاج.
قال: واشتقاق البنان من قولهم: أبَنَّ بالمكان: إذا أقام به؛ فالبنان به يُعتمل كلُّ ما يكون للاقامة والحياة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} العامل في إذ، يثبت أي يثبت به الأقدام ذلك الوقت.
وقيل: العامل {لِيربط} أي وليربِط إذ يوحي.
وقد يكون التقدير: اذكر {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ} في موضع نصب، والمعنى: بأني معكم، أي بالنصر والمعونة.
{معكم} بفتح العين ظرف، ومن أسكنها فهي عنده حرف.
{فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} أي بشروهم بالنصر أو القتال معهم أو الحضور معهم من غير قتال؛ فكان المَلك يسير أمام الصف في صورة الرجل ويقول: سيروا فإن الله ناصركم.
ويظن المسلمون أنه منهم؛ وقد تقدّم في آل عمران أن الملائكة قاتلت ذلك اليوم.
فكانوا يرون رءوسا تندر عن الأعناق من غير ضارب يرونه.
وسمِع بعضهم قائلًا يسمع قوله ولا يرى شخصه: أقدِم حيزوم.
وقيل: كان هذا التثبيت ذِكرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين نزول الملائكة مددًا.
قوله تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} تقدّم في آل عمران بيانه.
{فاضربوا فَوْقَ الأعناق} هذا أمر للملائكة.
وقيل: للمؤمنين، أي اضربوا الأعناق، و{فوق} زائدة؛ قاله الأخفش والضحاك وعطِية.
وقد روى المسعودِيّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لأُعذب بعذاب الله وإنما بعثت بضرب الرّقاب وشدّ الوثاق».
وقال محمد بن يزيد: هذا خطأ؛ لأن فوق تفيد معنى فلا يجوز زيادتها، ولكن المعنى أنهم أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها.
وقال ابن عباس: كل هام وجُمْجُمة.
وقيل: أي ما فوق الأعناق، وهو الرءوس؛ قاله عكرمة.
والضرب على الرأس أبلغ؛ لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ.
وقد مضى شيء من هذا المعنى في النساء وأن فوق ليست بزائدة، عند قوله: {فَوْقَ اثنتين} [النساء: 11].
{واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال الزجاج: واحد البنان بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء.
والبنان مشتق من قولهم أبَّنَ الرجل بالمكان إذا أقام به.
فالبنان يُعتمل به ما يكون للإقامة والحياة.
وقيل: المراد بالبنان هنا أطراف الأصابع من اليدين والرّجلين.
وهو عبارة عن الثبات في الحرب وموضع الضرب؛ فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء.
قال عنترة:
وكان فَتَى الهَيْجاء يحمِي ذِمَارها ** ويضرب عند الكَرْب كلّ بَنانِ

ومما جاء أن البنان الأصابع قول عنترة أيضًا:
وأنّ الموت طوع يدي إذا ما ** وصلت بنانَها بالهِنْدُوَانِي

وهو كثير في أشعار العرب، البنان: الأصابع.
قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف.
وذكر بعضهم أنها سميت بنانا لأن بها صلاح الأحوال التي بها يستقرّ الإنسان ويَبِنّ.
وقال الضحاك: البنان كل مفصِل. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} يعني أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الملائكة الذين أمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إني معكم بالنصر والمعونة {فثبَّتوا الذين آمنوا} أي: قووا قلوبهم واختلفوا في كيفية هذها لتقوية والتثبيت.
فقيل: كما أن للشيطان قوة في إلقاء الوسوسة في قلب ابن آدم بالشر، فكذلك للملك قوة في إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير.